قصة إنسانية أوقدتها الإصابة وتُوجت بإنجازات محلية وعالمية
من رحم المعاناة، كرّس الخبير عبد القدوس محمد أحمد إسحاق، مدرب وحكم دولي في رياضة التايكواندو، والمدرب الرياضي المعتمد في شرطة دبي، ومدير فريق أصحاب الهمم، حياته المهنية والشخصية ليحول الألم إلى رسالة تتجاوز الحدود، لم يكن طريقه معبداً بالنجاحات والإنجازات، بل خاض صعابه وتحدياته خطوة بخطوة، على أرضٍ صلبة من التحدي والإيمان العميق بقدرات كل إنسان.
في عام 2007، رُزق الخبير عبد القدوس بطفل من أصحاب الهمم، مصاب باضطراب طيف التوحد، فكانت اللحظة المفصلية في حياته، حين اختار أن يحول مسيرته الرياضية إلى مسيرة استثنائية مُخصصة لكل من امتحنه الله بإصابة دائمة، مُسخراً حصيلته العلمية والمعرفية لخدمة أصحاب الهمم على اختلاف إعاقاتهم، ليصنع عبر سنوات من العطاء إرثاً معرفياً ورياضياً ومجتمعياً يستحق التوقف عنده والتأمل في دوافعه.
عامٌ كامل، تطوع خلاله المدرب والخبير عبد القدوس في مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية، مكرساً جُل وقته للتمعن في الإعاقات الذهنية والجسدية، باحثاً عن لغة حقيقية للتواصل والدعم، وسبل التعامل الأمثل مع كل حالة، ليتمكن من تقديم الدعم الرياضي الأنسب والكفيل بتحسين علاقات أصحاب الهمم مع الآخرين، وتعزيز تواصلهم، ورفع كفاءة قدراتهم الحركية والعضلية، وفوق ذلك، تمكينهم ودمجهم في بطولات محلية وعربية ودولية، فكانت رياضة الباراتايكواندو.. الرياضة التي أسسها على مستوى الدولة، وساهم في إدخال هذه الرياضة على مستوى الدول العربية من خلال الزيارات وعمل الدورات التدريبية، محققاً ضمن منتخب الإمارات للباراتايكواندو، الميدالية الفضية عام 2015 في بطولة الباراتايكواندو، وذلك في أول مشاركة خارج الدولة لهم، الأمر الذي جعلها أول دولة عربية من دول غرب آسيا تحقق هذا الإنجاز.
مسار متخصص
ولأن الخبير عبد القدوس رياضيٌ متمرسٌ، ويملك فهماً دقيقاً لبنية الجسد، ووعياً عميقاً بدور الرياضة في إعادة تشكيل الشخصية، وبناء الثقة. انطلقت رحلته الفعلية نحو تأسيس مسار رياضي متخصص، يُخاطب أصحاب الهمم لا بوصفهم مُجرد مستفيدين من دورات تدريبية وتأهيلية مؤقتة، وإنما شركاء في تحقيق إنجازات محلية وعربية ودولية مُستدامة.
مدفوعاً بهمة وحب غريزة الأب، حصل على شهادة دبلوم معلم تربية خاصة، وشهادة مدرب دولي في الباراتايكواندو وشهادة مستشار دولي في المسؤولية المجتمعية، وأسس برامج تدريبية نوعية، تستند إلى مناهج علمية دقيقة، وتستهدف تنمية القدرات العضلية والحركية والتواصلية لأصحاب الهمم. فاتخذ من تمكين أصحاب الهمم غاية، ومن شغفه الرياضي أداة لتطوير وصقل شخصياتهم. لم يكتف بالتمرين، بل آمن بالتمكين، فعمل على دمجهم في بطولات محلية وعربية ودولية، مؤمناً بأن المنافسة ليست حكراً على أحد، وأن البطولات الكبرى لا تُقاس فقط بالنتائج، بل بقوة الإرادة والتصميم والأمل.
محطات رياضية
أنشأ الخبير عبد القدوس، ودرب فرقاً رياضيةً لأصحاب الهمم، مثل فريق فئة الصم وفريق الباراتايكواندو الإماراتيين، ونظم 5 بطولات محلية وعربية لهم. كما حقق مع منتخب الإمارات للباراتايكواندو، بوصفه مدرباً، الميدالية الفضية والبرونزية في بطولة العالم للباراتايكواندو التي أقيمت في البحرين عام 2025.
وحقق الميدالية الفضية في 2015 في تايوان ضمن منتخب الإمارات للباراتايكواندو، ما جعلها أول دولة عربية من دول غرب آسيا تحقق هذا الإنجاز، كما ساهم في تحقيق المركز الأول في بطولة وزارة الداخلية للدفاع عن النفس، ودرع التفوق العام 5 مرات متتالية، إلى جانب بطولة الشرطة العربية للباراتايكواندو والتي أقيمت تحت إشراف الاتحاد العربي للتايكواندو للشرطة عام 2024، وشارك فيها ضمن فريق شرطة دبي مُحققين المركز الأول.
عمل أكاديمي ومجتمعي
يؤمن الخبير عبد القدوس أن المعرفة لا تكتمل ولا تصنع فرقاً إلا إذا انتقلت إلى الآخرين، لذلك فإنه يحرص على الانخراط في مختلف البطولات المحلية والدولية، والاستمرار في نقل معرفته التخصصية والعلمية إلى أصحاب الهمم على اختلاف إعاقاتهم، وهو اليوم مُحاضر معتمد في تأهيل المدربين للتعامل مع أصحاب الهمم أثناء الأزمات، ويعمل كمستشار دولي في تطبيقات المسؤولية المجتمعية بالشبكة الإقليمية للمسؤولية الاجتماعية، وعضو مؤسس في الاتحاد العربي لتايكواندو الشرطة، ورئيس لجنة الباراتايكواندو بالاتحاد، إضافة إلى مشاركته في مؤتمرات دولية منها كونغرس متلازمة داون ومنتدى المسؤولية الاجتماعية في المجال الرياضي، وأصدر كتاباً حول أهمية التمارين الرياضية في الوقاية من قرحة الفرش لفئة المقعدين على الكراسي المتحركة.
دعم شرطة دبي
وبدعم مادي ومعنوي لا متناه من القيادة العامة لشرطة دبي، وشراكاتها مع القطاعات الحكومية والخاصة والأندية المحلية والدولية، تمكن الخبير عبد القدوس من تسطير قصص نجاح رائدة لأصحاب الهمم. فتبنت القيادة العامة لشرطة دبي عملية تصنيع كرسي رماية بمواصفات خاصة للاعبي الرماية بالبندقية من أصحاب الهمم من فئة مبتوري الأطراف، وتسجيله مصنفاً فكرياً.
ويقول الخبير: «تمكنت ضمن فريق عمل بالشراكة مع كل من النقيب عثمان قاسم أهلي، والوكيل أول محمد حسين، من تصنيع كرسي الرماية وتطويره بالتنسيق مع المعنيين، بحيث يتم استخدامه بسهولة في الرماية والتسديد نحو الهدف لمن يُعاني من فقد في اليدين والقدمين، وقد اعتمد الكرسي من قبل الاتحاد الدولي للرماية ومطابقته للمواصفات والقياسات الدولية، والحصول على مصنف فكري للكرسي، تأهلت به اللاعبة الإماراتية عائشة الشامسي لأولمبياد باريس 2024، كلاعبة ضمن منتخب الإمارات للرماية البارالمبية، وتصنف كأول حالة حول العالم والوطن العربي ترمي بأصابع القدم نحو الهدف والتسديد بالبندقية، وهي حاصلة على العديد من الميداليات الفضية والبرونزية، وشاركت في 6 بطولات دولية».
واستكمل حديثه حول دعم شرطة دبي قائلاً: «لم تدخر القيادة العامة لشرطة دبي، سواء أكاديمية شرطة دبي أو الإدارة العامة لإسعاد المجتمع، والإدارة العامة للتدريب، أو مجلس تمكين أصحاب الهمم، وكافة الإدارات العامة والمجالس، جهداً في دعم وتمكين ودمج أصحاب الهمم في مختلف القطاعات، ومنها القطاع الرياضي، وقدموا الدعم اللوجستي والمعدات ومقار التدريب، وعقدوا الشراكات والاتفاقيات ومذكرات التفاهم المختلفة في سبيل دعم تحقيق توجهات إمارة دبي والدولة لتمكين أصحاب الهمم. لذلك فإني أتوجه إليهم بالشكر الكبير وعظيم الامتنان على كل ما قدموه من دعم لتحقيق كل هذه الإنجازات الرياضية».
تعميم التجربة
يقول الخبير عبد القدوس: «تعد المحطة الأبرز في مسيرتي نحو تمكين ودمج أصحاب الهمم رياضياً، هي تأسيس رياضة الباراتايكواندو على مستوى الدولة كنظام متكامل يشمل البرامج التدريبية والتأهيلية والتقنية، فوضعت مع الشركاء حجر الأساس لرياضة قتالية تكسر الحواجز الذهنية والجسدية، وتمنح أصحاب الهمم منصة لإثبات الذات، وتأكيد حضورهم في المشهد الرياضي بقوة وكفاءة».
وحول أبرز المبادرات، قال: «سبق وأطلقنا في شرطة دبي مبادرة العلاج برياضة الباراتايكواندو، وأعددت أول برنامج تأهيلي متخصص على مستوى العالم لهذه المبادرة، وحصلت على هذه المبادرة ثلاثة مصنفات فكرية معتمدة من وزارة الاقتصاد، وتم تعميمها على مستوى الدولة من خلال تطبيقها في 7 مراكز، منها، مركز دبي لتأهيل وتدريب أصحاب الهمم، ومركز عجمان لتأهيل أصحاب الهمم، ونادي دبي لأصحاب الهمم، ومدينة الشارقة للخدمات الإنسانية، وفرع المدينة في خورفكان، وجمعية أهالي ذوي الإعاقة، ومركز كبار المواطنين في الممزر، وجمعية الإمارات لمتلازمة داون».
وتابع: «في كل مبادرة أو دورة تدريبية، نُجري اختبارات نفسية ومهارية وبدنية قبل المبادرة وبعدها، ونلمس تطورات كبيرة على المنتسبين بشهادة أولياء الأمور أنفسهم، وبشهادة الأخصائيين الذين يتابعون حالات أصحاب الهمم، لقد تمكنا بفضل الله من نيل جوائز عدة، أبرزها «الجائزة الدولية للفكر الشرطي IPSA»، أول جهة شرطية على مستوى الإمارات والشرق الأوسط، تحصل على هذه الجائزة عن فئة أفضل الممارسات والمبادرات الشرطية والعلاقات المجتمعية، وتمنحها الجمعية الدولية للعلوم الشرطية بالولايات المتحدة الأمريكية، للجهات المساهمة في تحقيق الجودة والتميز في العمل الأمني والشرطي، وذلك ضمن مسؤوليتها المجتمعية في تطبيق أفضل الممارسات والتجارب العالمية لتعميق الروابط مع المجتمع، عبر إطلاق حزمة من المبادرات التي تستهدف أصحاب الهمم لتعزيز الاهتمام بهم، وتفعيل دورهم ودمجهم في المجتمع أسوة بغيرهم من دون تمييز».
تحديات التدريب
وحول صعوبة تدريب أصحاب الهمم، نظراً لاختلاف إعاقاتهم الجسدية والذهنية، أكد أن الأمر لا يمكن أن يُكتب له النجاح إلا بصبر عظيم وتعاون بين كافة الجهات المشاركة، فالمهارة الرياضية التي تأخذ من الإنسان السوي يوماً أو أسبوعاً، قد تستغرق من ذوي الإعاقة شهراً أو أكثر حتى يُتقنها.
وأضاف: «أطلقت دورتين لتأهيل وإعداد مدربين مختصين في تدريب أصحاب الهمم على مستوى محلي وعربي، تحت إشراف الاتحاد الدولي للتايكواندو، والاتحاد العربي للتايكواندو، واتحاد الإمارات للتايكواندو، واللجنة البارالمبية الإماراتية. كما سبق وأطلقنا في فترة كورونا دورة تدريبية عن بعد لعدد 10 آلاف متدرب حول العالم، بحيث يقدم 400 مدرب رياضة الباراتايكواندو بالتناوب خلال الدورة للمنتسبين».
جوائز وتكريم
حصل الخبير عبد القدوس وساهم في الحصول على عدد من الجوائز، منها جائزة القيادة الدولية في الشرطة المجتمعية IACP، المركز الأول لعامي 2023 و2024، وجائزة الشارقة للعمل التطوعي عن أفضل مبادرة لعام 2022، ووسام القائد العام لشرطة دبي للتميز في المجال التخصصي عام 2019 «فردية»، ووسام القائد للأفكار فارس الاقتراحات 2018، كما نال أكثر من 39 شارة تقدير من الطبقة الأولى و250 شهادة تميز.
إن مسيرة الخبير عبد القدوس ليست فقط مسيرة ملهمة، بل هي دليل حي على أن الفرد حين يؤمن برسالته، يستطيع أن يصنع فرقاً حقيقياً، لا في حياة مُحبيه فقط، بل في حياة آلاف الأسر التي رأت في الرياضة نافذة نور، وفيه شخصاً حمل همومهم، وجعل منها مشروعاً إنسانياً متكاملاً.
0 تعليق