الفتى القادم من بغداد: السياسة والهوية في تجربة ناظم الزهاوي

الخليج 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

تُعد السير الذاتية التي تروي تحوّلات المصير الإنساني عبر الجغرافيا والسياسة والثقافة من أكثر النصوص قدرة على التقاط روح العصر؛ وفي عالم تتعالى فيه الأسئلة حول الاندماج، والانتماء، وصناعة الذات في بيئات جديدة، تأتي هذه السيرة لتضيء جانباً نادراً من المشهد العام: كيف يمكن لفتى قادم من منطقة مضطربة أن يشق طريقه نحو مواقع القرار في بلد لا يشبه منشأه في شيء.
يقدّم ناظم الزهاوي في كتابه «الفتى القادم من بغداد: رحلتي من الوزيرية إلى وستمنستر» الصادر عن دار «هاربر كولينز» في 320 صفحة في أواخر 2024، سرداً شخصياً نابضاً بالذكريات، يستعرض فيه تحوّله من طفل خائف في حي الوزيرية في بغداد إلى أحد أبرز وجوه السياسة البريطانية. تأتي هذه السيرة كمرآة لعصر متقلب، ولتجربة اللجوء والانتماء والنجاح والتراجع ضمن عالم لا يرحم.
يبدأ الزهاوي حكايته من بيئة عائلية مرفّهة، حيث كان جده وزيراً ومحافظاً للبنك المركزي العراقي، ووالده من رواد الاقتصاد في العراق، إلا أن كل هذا لم يمنع العائلة من أن تصبح هدفاً محتملاً لنظام صدام حسين، ما اضطرهم إلى الهروب في منتصف السبعينات. كانت لحظة النزوح إلى بريطانيا مفصلية في حياة ناظم، حيث دخل عالماً جديداً بلغة وثقافة وطقوس لا يعرف عنها شيئاً.
يصف ناظم وصوله إلى لندن في سن الحادية عشرة، طفلاً يتلعثم بالإنجليزية، يشعر بالغربة، ويُقابل أحياناً بالتحقير، وأحياناً بالشفقة. لكنه، كما يصف، وجد في هذه التجربة دافعاً مضاعفاً لإثبات الذات. لم يكن اندماجه سهلاً، لكنه بدأ شيئاً فشيئاً ببناء هويته كلاجئ سابق يحمل طموحاً بريطانياً.
يسرد الكتاب كيف أسس الزهاوي شركة (YouGov)، التي أصبحت من أشهر شركات استطلاع الرأي في العالم. هذا النجاح، بحسب الزهاوي، أصبح بوابته إلى السياسة، فقد انضم لاحقاً إلى حزب المحافظين البريطاني، ليصعد بهدوء وثبات في المناصب، من نائب في البرلمان إلى وزير اللقاحات خلال أزمة كورونا، فوزير التعليم، ثم وزير المالية، في واحدة من أسرع مسيرات الصعود في تاريخ الأقليات بالمملكة المتحدة.
لا يغفل الكتاب التحديات التي واجهها الزهاوي بسبب خلفيته كعراقي كردي مسلم في المشهد السياسي البريطاني المحافظ. يشير إلى نظرات الشك، والاختبارات غير المعلنة، والحاجة المستمرة إلى إثبات الولاء والكفاءة. يكتب بصراحة عن ازدواجية الانتماء، وعن كيف تعايش مع كونه «غريباً» حتى في لحظات نجاحه القصوى.
كما لا يغفل الكتاب النهاية المفاجئة لمسيرته السياسية، حين تم عزله من منصب رئيس حزب المحافظين في عام 2023 بعد جدل ضريبي كبير. يعرض الزهاوي الموقف من وجهة نظره، ويدافع عن نفسه، معتبراً ما حصل نقطة مراجعة، لا بالضرورة نهاية طريق.
في الجوهر، هذا الكتاب سيرة رجل سياسي، ووثيقة عن الاندماج، عن اللجوء، عن الكفاح من الهامش إلى المركز، ثم عن هشاشة هذا المركز نفسه. يكتب الزهاوي بلغة بسيطة لكنها مشبعة بالحنين والمرارة، فيها من الفخر بإنجازه، وفيها من التأمل في حدود النجاح في عالم السياسة البريطانية.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق