النمو بعد الصدمة

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
النمو بعد الصدمة, اليوم الثلاثاء 3 يونيو 2025 02:18 صباحاً

كثير من السير الذاتية التي لمع نجم أصحابها وتمدد أثرهم في صفحات الكتب أو عبر الأثير المسموع والمرئي، لا تخلو من خيط خفي من الألم، أو لحظة انكسار، أو ومضة ضعف رافقتهم في مسيرتهم. حتى صرت أردد في قرارة نفسي: ما من إنسان تخطى الحدود المعتادة لإطارات البشر، إلا وكان خلف قفزته تلك وجع دفين، وتجربة قاسية صقلته من الداخل.

ودون مبالغة، بات السؤال الأعمق والأصدق الذي يستحق أن يوجه لأولئك المتألقين ليس: ما هي إنجازاتك؟ فهذه أصبحت مجرد نتيجة وثمرة لما قبلها. بل السؤال الجدير بالبحث والتمحيص هو: ما هي الآلام التي مررت بها؟ ما هي نقاط التحول المريرة التي أعادت تشكيلك، وأفرزت منك نسخة أقوى، مزودة بأعتى وسائل الدفاع، وممتلئة بطاقة كامنه لا حدود لها تجاه الإنجاز والأثر الطيب؟

الحقيقة هذا المشهد العابر للأزمان والإنسان بقليل من التأمل ومراجعة السير وسنن الكون ستصل حتما لتلك المعادلة التي تحكي أن الألم هو السبيل الميسر الذي سيأخذك نحو رحلة القوة والتمكين والأثر، في الحديث الشريف يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل) وكأن الحديث يروي المعادلة الطردية من حيث ارتباط الآلام بالعظمة الشخصية، وكأن الصقل للإطارات والمكونات الشخصية لا يمكن لها أن تكون في أفضل صورة لها إلا بمزيد من الآلام والتحديات، جرب أن تقرأ أي سيرة ذاتية عظيمة موجها قراءتك تجاه هذا المحور، وستجد في تفاصيلها تلك الآلام والانكسارات.

في منتصف التسعينيات وضع العالمان تيدشي وكالهون نظرية النمو بعد الصدمة (Post-Traumatic Growth - PTG) خلال عملهما مع أشخاص مروا بتجارب صعبة مثل فقدان الأحبة والأمراض والحروب، لاحظ العالمان أن البعض تحولوا بعد الألم إلى أشخاص أقوى وأكثر حكمة واتصالا بالحياة، وأن الإنسان بعد الانكسار مهيأ أكثر لأن يبني من الأنقاض مبنى جميلا وليس مجرد الدوران حول محور التعافي، وأكدت النظرية أن الإنسان يخرج من الألم ليس كما دخل، والملاحظات التي تناولها العالمان في خمسة ملامح بعد الصدمات، تنامي تقدير الحياة من خلال رؤية الجمال في التفاصيل الصغيرة والشعور بالامتنان لأشياء كانت تعتبر عادية، كما أن العلاقات تطورت لتصبح أكثر صدقا وعمقا، وأن القوة الداخلية والثقة أصبحت أكبر في مواجهة الأزمات، بالإضافة إلى ارتفاع مستوى الروحانيات، وأصبح هناك وجود لرؤية جديدة للحياة مع أولويات وأهداف إنسانية ذات سمو وارتفاع.

ملمح الآلام لا بد له من امتزاج في تفاصيل الحياة، ولا يمكن له أن يصبح وقودا للتغيير إلا بتقبله والتعايش معه والتدبر من خلاله لتطبيبه أولا والتعامل معه بروح حكيمة هادئة ليكون ذلك الوقود المطلوب للنسخة الجديدة من الشخصية ثانيا.

إيجاد تلك الفكرة العميقة والمبدأ العظيم في ثنايا الألم والإيمان بها بأنه لا بد من وجود الآلام في الحياة التي قد يصل مداها للكسر النفسي ولكن ليس إلى حد السقوط النهائي، ستمكن الإنسان من إعادة البناء بطريقة عظيمة تحول تلك الآلام فيما بعد إلى مصدر عظيم للإلهام.

لكل من يتألم...اعلم أن الآلام لا يجب لها أن تؤطر بإطارات المنطق والعقل في حينها، وأن الجراح حين تسكن القلب تثقله، وأن من يده في الماء، ليس كمن يحترق في لهيب التجربة، لكنك أمام فرصة نادرة، ليس لإخفاء الألم، بل لإعادة بناء ذاتك من جديد، واسأل الله أن يخرجك مما أنت فيه معافى الروح، نقي القلب، عظيم النفس.

ابنِ من هذا الألم صرحا يضيء لك أولا... ثم ينير الحياة من حولك.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق